القطاع البنكي التونسي: الإصلاحات غير المكتملة

معز العبيدي – أستاذ مالية دولية وعضو مجلس التحاليل الاقتصادية
تشير العديد من الدراسات التي أجرتها المؤسسات الدولية وشركات التدقيق الداخلية والخارجية

إلى عجز القطاع البنكي التونسي عن أداء دوره بالكامل في تمويل الاقتصاد،حيث تبقى مساهمة القطاع البنكي في تونس دون المعدلات المسجلة في بلدان مماثلة (المغرب والأردن).

وقد انطلقت الحكومة في إطار دينماكية الإصلاح ،في اتخاذ مجموعة من الإصلاحات لفائدة القطاع البنكي خلال السنوات الأخيرة من (إعادة هيكلة وإعادة رسملة البنوك العامة،وإعادة النظر في قانون البنك المركزي)،وتعتبر هذه الإصلاحات من ضمن الايجابيات التي يعرفها القطاع البنكي ،فالقانون البنكي الجديد مبني على التجدد،خاصة في ما يتعلق بإحداث صندوق لضمان الودائع من أجل حماية الأفراد من المخاطر التي يمكن أن تهز مؤسسات الائتمان ، كما تكتسب الحوكمة الرشيدة دورا مهما من خلال دمج أحكام منشور البنك المركزي عدد 06-2011.

وقد وضع البنك المركزي الاستقرار المالي هدفا من خلال القانون المصرفي الجديد وهو هدف مشترك بالنسبة لمختلف البنوك المركزية في البلدان المتقدمة والاقتصاديات الناشئة ، كما ساهمت هذه الإصلاحات في تجديد الجهاز التنظيمي وإدخال ممارسات الحكم الرشيد ،وهي خطوة مهمة ولكنها ليست كافية ، خاصة بالنسبة للبنوك التي تطمح للنجاح في إرساء المعايير الدولية للحوكمة الرشيدة.

بقيت الإصلاحات المتخذة ككل بعيدة عن مواجهة التحديات التي تعرفها المنظومة البنكية وهو أمر بديهي بإعتبار أن طريق الإصلاح مايزال طويلا والتحديات المطلوب رفعها كذلك مهمة (المنافسة ، والابتكار،والأداء ، والحكم الرشيد ،وتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة،وتمويل التنمية الجهوية ،والاندماج الدولي…)، لاسيما في اقتصاد رائد في عملية الانتقال السياسي حيث لا يزال النمو هشا.

كما أن التوزيع السيئ للقروض، يعتبر مصدرا لارتفاع معدل الديون المشكوك في إسترجاعها وخاصة في البنوك العمومية،حيث مثلت نسبة القروض المشكوك في استرجاعها 18 في المائة من مجموع محفظة القروض بالنسبة للبنوك العمومية مقابل 10.5 في المائة من بالنسبة للقروض الخاصة مع موفى جوان 2019.

أن السياسة الائتمانية غالبًا ما تكون مقصية للشركات الصغيرة والمتوسطة ، في حين أنها تساهم بنسبة تصل إلى 40٪ من إجمالي الناتج المحلي وقد عملت الدولة في هذا الإطار على خلق آليات لدفع المشاريع الصغرى والمتوسطة من قبيل بنك التضامن وبنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة وعلى الرغم من أهمية الدور الذي لعبته هذه الآليات ،فإن النتائج المسجلة بقيت دون المأمول.

كما لا بد من التذكير بأن مشكلة الحجم في تونس تعيق عملية التركيز وتحرم البنوك التونسية من تعدي عتبة الحجم الأدنى «taille critique « والذي يمكن البنك من تحسين قدرته التنافسية من خلال تحسين الإنتاجية.

ويعيش القطاع البنكي التونسي وسط مجموعة من المخاطر،سواء في علاقة بالمنظومة البنكية أو بالوضع الاقتصاد الوطني أو العالمي ،ففي ما يتعلق بالمخاطر المتصلة بالمنظومة البنكية ،فقد ساهمت عدة عوامل في القطاع المصرفي في هشاشة البنوك التونسية وتتمثل هذه العوامل في نقص السيولة المصرفية بالدينار وبالعملات الأجنبية وهو ما نجم عنه نقص مفرط في الودائع المصرفية ،كما نتج عن شح السيولة مضاربة على الادخار،حيث تجاوزت نسبة الفائدة على الادخار نسبة الفائدة في السوق النقدية بأربعة نقاط مائوية .

ويضاف إلى ذلك تشديد السياسة النقدية من طرف البنك المركزي وذلك بالترفيع في نسبة الفائدة في فيفري المنقضي إلى 7.75 ٪ وهي نسبة لا تشجع الطلب على الائتمان وهو أمر يؤثر سلبا في قوائم البنوك.

كما أن تعميم منشور البنك المركزي على نسبة الاعتمادات/الودائع التي يجب ألا تتجاوز 120٪ (أي أن تكون الائتمانات أقل من أو تساوي 120٪ من الودائع) وهو ما أثر سلبًا خاصة على الطلب على قروض الاستهلاكية على القروض الاستهلاك التي تراجع نسق تطورها من 10.2 ٪ في 2017 إلى 5 ٪في 2018 وتباعا على البنوك.

أما عن المخاطر المتعلقة بالوضع الاقتصادي في تونس،فيمكن ربطها بتعثر عجلة الإنتاج في بعض القطاعات الإستراتيجية على غرار(الفوسفاط) تسبب في حرمان البنوك من السيولة بالعملات الأجنبية ،كما مثل ارتفاع معدلات التضخم عاملا في إضعاف القدرة الشرائية وقلص من فرص الادخار وعلاوة على ذلك ساهمت الاحتياجات المتزايدة للدولة في تجفيف السيولة في القطاع، إذ إرتفع مستوى تدخل الدولة السوق المالية المحلية لتمويل عجز الميزانية نفسها التي قدرت بـ 2500 مليون دينار في ميزانية 2019).

أما عن المخاطر المنوطة بالوضع الاقتصادي، فإن المراجعات التي تجرى سلبا لمعدل النمو في منطقة اليورو، من قبل صندوق النقد الدولي، فهي تعيق صادرات الشركات التونسية نحو البلدان الأوروبية، وهو ما يحد من موارد البنوك التونسية.

وأمام المخاطر المحدقة بالمنظومة البنكية ،فإن هناك أولويات وجب العمل عليها لدفع القطاع و النهوض بالاقتصاد الوطني تباعا، حيث لا يمكن أن تأمل تونس في استعادة النمو الاقتصادي القوي في ظل تواجد نظام مصرفي هش، فهناك حاجة ملحة إلى جملة من الإصلاحات العميقة والجذرية تتجاوز الإطار البنكي والتي تعد ضرورية لتحسين صلابة القطاع المالي وتعتبر هذه التقاطعات شروط ضرورية لرفع مستوى النمو:

يشترط في البداية القطع مع المقاربة التي تقيم المخاطر البنكية وفقًا لضعف البنوك ومن أجل إنقاذ الاقتصاد الوطني من المخاطر النظامية ، يجب أن يكون الإصلاح الجاد للقطاع المصرفي جزءًا لا يتجزأ من مقاربة شاملة تنطلق من النظام المالي بأكمله (سوق المال، السوق المالية، شركات التأجير، صندوق الودائع والأمانات، …) الشركات الإستراتيجية (شركة فسفاط قفصة، المجمع الكيميائي) والقطاعات النظامية (السياحة، العقارات …).

كما انه من الضروري، القطع مع التشريعات المكبلة للمبادرات الخاصة والتي تخفي وراءها جانبا كبير من التحفظ «conservatisme»، وهو أمر مضر بالقدرة التنافسية للاقتصاد كما هو الحال مع قانون الصرف الذي اثر في أداء الشركات المصدرة.ومن المهم أيضا القطع مع أسلوب التردد في تطبيق بعض النصوص التجديدية، أو التنازل عن معاقبة التجاوزات المهنية وعلاوة على ذلك وجب عدم التردد في فرض معايير الحوكمة الرشيدة بأقصى درجات الحزم في القطاع المصرفي والمؤسسات العمومية.

يحتاج القطاع البنكي في تونس اليوم إلى خطة إصلاح شاملة ومعمقة قادرة على مجابهة التحديات الحالية، وإن الإصلاح الجاد يؤدي في الغالب إلى معالجة المخاطر(مالية ، اقتصادية واجتماعية) والتي ، في حالة التسلسل السيئ ، يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية وتبعا لذلك تتولد الحاجة إلى التحكيم ، فالإصلاحات التجميلية لن تكون قادرة على رفع التحديات ، كما أن الإصلاحات المعمقة قد لايكتب لها النجاح إذا كانت مرتجلة ولاتحترم شروط الحذر والمهنية.

إن الإصلاحات التي نضجت والتي تمت مناقشتها على نطاق واسع هي التي ستحظى بأفضل فرصة لتحقيق أهدافها ، خاصة عندما تظل أساسيات الاقتصاد في وضعية غير مريحة ، كما هو الحال في تونس بعد الثورة.

يوجد سؤال مركزي اليوم وجب على الحكومة المقبلة الإجابة عليه وفحوى هذا السؤال –هل للدولة دور تلعبه في قطاع مصرفي يعمل في مناخ تنافسي ؟ فهناك شق يلح على ضرورة أن تتخلى الدولة عن مساهمتها في البنوك المشتركة ، على غرار البنك التونسي الإماراتي أو البنك التونسي الكويتي حيث يكون الأداء مخيبا للآمال في كثير من الأحيان ومن ناحية ثانية وبالنسبة لوضعية البنوك العمومية ،فهناك حاجة ملحة إلى التفكير المعمق بما يخلق تعريفا جديدا لمكانة الدولة في القطاع البنكي العمومي وفي هذا السياق بالتحديد تعتبر مسألة حوكمة الشركات العمومية أولوية، خاصة وأن جزءا من هشاشة البنوك العمومية يرتبط بالديون المعلقة على عاتق مجموعة من المؤسسات العمومية والدواوين.

وفي سياق أخر، يحتاج القطاع المصرفي التونسي إلى مزيد الإدماج بنسق أسرع في ديناميكية التركيز، بإعتبار أن عدد المؤسسات البنكية يتجاوز طاقة استيعاب الساحة المالية التونسية، في الواقع، هناك مشكلة في الحد الأدنى لرأس المال المطلوب لمنح الموافقة المصرفية، والتي تم تخفيضها إلى 100 مليون دينار وهو مستوى غير كافٍ للغاية لخلق ديناميكية حقيقية للتركيز في القطاع بإعتبارأن الديناميكية هي التي ستمنح الإمكانية لمؤسسة بنكية بحجم كافي يخول له التواجد في الأسواق الأجنبية ودعم المؤسسات في التونسية في الخارج.

أما عن الإصلاحات الواجب اتخاذها لنمو القطاع البنكي ، فإن إصلاح النظام المالي التونسي يستحق الأفضل لاسيما بالثقل الذي يمثله القطاع البنكي في تمويل الاقتصاد الوطني وأهمية الأصول التي تحتفظ بها البنوك العمومية، والعلاقات «المميزة» بين الشركات العمومية العامة والمصارف العمومية، إن الإمكانات غير المستغلة لطرق التمويل البديلة، تفرض وبإلحاح إصلاحها أكثر عمقا ودقة، فالقطاع البنكي التونسي مُلزم بالتحديث من أجل اللحاق بالمعايير الدولية للأداء والحوكمة الرشيدة.

ويواجه القطاع البنكي جملة من التحديات ومن الضروري العمل على رفعها :
التحدي المتمثل في إعادة تعريف دور الدولة في القطاع: يجب على الدولة إعادة تحديد دورها في قطاع تنافسي مثل القطاع المصرفي، حيث من المسلم به أن للدولة أهدافا لتطوير الفلاحة والتنمية الجهوية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، والإدماج المالي، حيث يكون دعم الدولة بالغ الأهمية، فمن الضروري ان يتوفر بنك عمومي واحد فقط يقوم بهذا الدور.

تحدي العولمة /التدويل : لا يمكن للبنوك التونسية أن تغزو الأسواق الأجنبية (الأفريقية أو غيرها) دون تحقيق الاندماج المستوى المحلي، فديناميكية التركيز ضرورية لتمكين البنوك التونسية من الحصول على الحجم اللازم الذي يسمح لها بمصاحبة الشركات التونسية في الأسواق الأفريقية.

تحدي تحديث إدارة المخاطر: يبقى تحديث إدارة المخاطر في البنوك مشروطًا بنجاح إصلاح سوق رأس المال والذي يتسم بالبطء في الظهور ،إذ انه من الضروري الإسراع بمراجعة قانون 74 لتطوير السوق المالية التونسية .

تحدي تحسين إدارة الموارد البشرية: يعتمد نجاح تحديث القطاع أيضًا على إصلاح الاتفاقيات الجماعية حيث تستمر هذه الاتفاقيات تحت سقف الاقدمية والحضور فقط وليس الأداء و الكفاءة.

تحدي الرقمنة: لضمان النجاح والاندماج المالي وتعزيز التمويل البديل ، ينبغي على البنوك التونسية أن تكسب رهان الرقمنة إذ أنها لا تستطيع دعم الثورة الرقمية ببيئة تنظيمية محافظة .

ختاما وعلى ضوء هذه القراءة ، تونس في حاجة إلى منظومة إصلاح للقطاع البنكي تحمل رؤية إستراتجية معمقة.



Partager cette page
NEWS DU 16-03-2020
NEWS DU 11-03-2020
NEWS DU 09-03-2020
NEWS DU 06-03-2020
Courtier Immobilier Financement de l'immobilier Interviews Les Foires Promotion immobilière
تونس: المضاربات تدفع الإيجارات إلى مستويات قياسية
بورصة تونس تتراجع للحصة الخامسة على التوالي
وكالة فيتش : توقيع تونس لاتفاق زيادة الأجور يقربها من قرض النقد الدولي
Bricolage Lamasat LE MAGAZINE Santé dans l'immobilier Techniques de jardinage
EMISSION 5
EMISSION 4
Emission 3
Le monde de l'architecture Les techniques de construction Musées du monde Villes du monde
L’univers du granite
Musée d’Art moderne
Toulouse la ville rose